فصل: تنبيه لفظة ‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


تنبيه لفظة ‏"‏كفى‏"‏ تستعمل في القرآن واللغة العربية استعمالين‏:‏

تستعمل متعدية، وهي تتعدى غالبًا إلى مفعولين، وفاعل هذه المتعدية لا يجر بالباء‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ‏}‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ ‏}‏، ونحو ذلك من الآيات‏.‏

وتستعمل لازمة، ويطر، جر فاعلها بالباء المزيدة لتوكيد الكفاية‏.‏ كقَوْله في هذه الآية الكريمة ‏{‏كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً‏}‏ ونحو ذلك‏.‏

ويكثر إتيان التمييز بعد فاعلها المجرور بالباء‏.‏ وزعم بعض علماء العربية‏:‏ أن جر فاعلها بالباء لازم‏.‏ والحق أنه يجوز عدم جره بها، ومنه قول الشاعر‏:‏ عميرة ودع إن تجهزت غاديا كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

وقول الآخر‏:‏ ويخبرني عن غائب المرء هديه كفى الهدى عما غيب المرء مخبرا

وعلى قراءة من قرأ ‏{‏يلقاه‏}‏ بضم الياء وتشديد القاف مبنيًا للمفعول ـ فالمعنى‏:‏ أن الله يلقيه ذلك الكتاب يوم القيامة‏.‏ فحذف الفاعل فبني الفعل للمفعول‏.‏

وقراءة من قرأ ‏{‏يَخْرُجُ‏}‏ بفتح الياء وضم الراء مضارع خرج مبنيًا للفاعل ـ فالفاعل ضمير يعود إلى الطائر بمعنى العمل وقوله ‏{‏كتابا‏}‏ حال من ضمير الفاعل‏.‏ أي ويوم القيامة يخرج هو أي العمل المعبر عنه بالطائر في حال كونه كتابًا يلقاه منشورًا‏.‏ وكذلك على قراءة ‏{‏يَخْرُجُ‏}‏ بضم الياء وفتح الراء مبنيًا للمفعول، فالمضير النائب عن الفاعل راجع أيضًا إلى الطائر الذي هو العمل‏.‏ أي يخرج له هو أي طائره بمعنى عمله، في حال كونه كتابًا‏.‏

وعلى قراءة ‏"‏يخرج‏"‏ بضم الياء وكسر الراء مبنيًا للفاعل، فالفاعل ضمير يعود إلى الله تعالى، وقوله ‏{‏كتابا‏}‏ مفعول به‏.‏ أي ويوم القيامة يخرج هو أي الله له كتابًا يلقاه منشورًا‏.‏

وعلى قراءة الجمهور منهم السبعة ـ فالنون في ‏{‏نُخْرِجُ‏}‏ نون العظمة لمطابقة قوله ‏{‏ألزمناه‏}‏ و‏{‏كتابا‏}‏ مفعول به لنخرج كما هو واضح‏.‏ والعلم عند الله تعالى‏.‏ قوله تعالى ‏{‏فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ‏}‏‏.‏ ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة‏:‏ أن من اهتدى فعمل بما يرضي الله جلَّ وعلا، أن اهتداءه ذلك إنما هو لنفسه لأنه هو الذي ترجع إليه فائدة ذلك الاهتداء، وثمرته في الدنيا والآخرة‏.‏ وأن من ضل عن طريق الصواب فعمل بما يسخط ربه جلَّ وعلا، أن ضلاله ذلك إنما هو على نفسه‏.‏ لأنه هو الذي يجني ثمرة عواقبه السيئة الوخيمة، فيخلد به في النار‏.‏

وبين هذا المعنى في مواضع كثيرة‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ‏}‏‏.‏ والآيات بمثل هذا كثيرة جدًا‏.‏ وقد قدمنا طرفًا منها في سورة ‏"‏النحل‏"‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏‏.‏ ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة‏:‏ أنه لا تحمل نفس ذنب أخرى‏.‏ بل لا تحمل نفس إلا ذنبها‏.‏

فقوله ‏{‏وَلاَ تَزِرُ‏}‏ أي لا تحمل، من وزريزر إذا حمل‏.‏ ومنه سمي وزير السلطان، لأنه يحمل أعباء تدبير شؤون الدولة‏.‏ والوزر‏:‏ الإثم‏.‏ يقال‏:‏ وزر يزر وزرا، إذا أثم‏.‏ والوزر أيضًا‏:‏ الثقل المثقل، أي لا تحمل نفس وازرة أي آثمة وزر نفس أخرى‏.‏ أي إثمها، أو حملها الثقيل‏.‏ بل لا تحمل إلا وزر نفسها‏.‏

وهذا المعنى جاء في آيات أخر‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

وقد قدمنا في سورة ‏"‏النحل‏"‏ بإيضاح‏:‏ أن هذه الآيات لا يعارضها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏، ولا قوله‏:‏ ‏{‏لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏‏.‏ لأن المراد بذلك أنهم حملوا أوزار ضلالهم في أنفسهم، وأوزار إضلالهم غيرهم‏.‏ لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا ـ كما تقدم مستوفى‏.‏

تنبيه

يرد على هذه الآية الكريمة سؤالان‏:‏

الأول ـ ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما من ‏"‏أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه‏"‏ فيقال‏:‏ ما وجه تعذيبه ببكاء غيره‏.‏ إذ مؤاخذته ببكاء غيره قد يظن من لا يعلم أنها من أخذ الإنسان بذنب غيره‏؟‏

السؤال الثاني ـ إيجاب دية الخطإ على العاقلة‏.‏ فيقال‏:‏ ما وجه إلزام العاقلة الدية بجناية إنسان آخر‏؟‏‏.‏

والجواب عن الأول ـ هو أن العلماء حملوه على أحد أمرين‏:‏

الأول ـ أن يكون الميت أوصى بالنوح عليه‏.‏ كما قال طرفة بن العبد في معلقته‏:‏ إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقى على الجيب يابنة معبد

لأنه إذا كان أوصى بأن يناح عليه‏:‏ فتعذيبه بسبب إيصائه بالمنكر‏.‏ وذلك من فعله لا فعل غيره‏.‏

الثاني ـ أن يهمل نهيهم عن النوح عليه قبل موته مع أنه يعلم أنهم سينوحون عليه‏.‏ لأن إهماله نهيهم تفريط منه، ومخالفة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ فتعذيبه إذا بسبب تفريطه، وتركه ما أمر الله به من قوله‏:‏ ‏{‏مقتكم أنفسكم‏}‏ الآية ـ وهذا ظاهر كما ترى‏.‏

وعن الثاني ـ بأن إيجاب الدية على العاقلة ليس من تحميلهم وزر القاتل، ولكنها مواساة محضة أوجبها الله على عاقلة الجاني‏.‏ لأن الجاني لم يقصد سوءًا، ولا إثم عليه البتة ـ فأوجب الله في جنايته خطأ الدية بخطاب الوضع، وأوجب المواساة فيها على العاقلة‏.‏ ولا إشكال في إيجاب الله على بعض خلقه مواساة بعض خلقه‏.‏ كما أوجب أخذ الزكاة من مال الأغنياء وردها إلى الفقراء‏.‏ واعتقد من أوجب الدية على أهل ديوان القاتل خطأ كأبي حنيفة وغيره ـ أنها باعتبار النصرة فأوجبها على أهل الديوان‏.‏ ويؤيد هذا القول ما ذكره القرطبي في تفسيره قال‏:‏ ‏"‏وأجمع أهل السير والعلم‏:‏ أن الدية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام ‏.‏ وكانوا يتعاقلون بالنصرة ثم جاء الإسلام فجرى الأمر على ذلك‏.‏ حتى جعل عمر الديوان‏.‏

واتفق الفقهاء على رواية ذلك والقول به‏.‏ وأجمعوا أنه لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا زمن أبي بكر ديوان، وأن عمر جعل الديوان، وجمع بين الناس، وجعل أهل كل ناحية يدًا، وجعل عليهم قتال من يليهم من العدو‏.‏ انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏‏.‏ ظاهر هذه الآية الكريمة‏:‏ أن الله جلَّ وعلا لا يعذب أحدًا من خلقه لا في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏ حتى يبعث إليه رسولًا ينذره ويحذره فيعصى ذلك الرسول، ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار‏.‏

وقد أوضح جلَّ وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً‏}‏ فصرح في هذه الآية الكريمة‏:‏ بأن لا بد أن يقطع حجة كل أحد بإرسال الرسل، مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم النار‏.‏

وهذه الحجة التي أوضح هنا قطعها بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين‏.‏ بينها في آخر سورة طه بقوله ‏{‏وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى‏}‏‏.‏

وأشار لها في سورة القصص بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، وقوله جلَّ وعلا‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ‏}‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

ويوضح ما دلت عليه هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن العظيم من أن الله جلَّ وعلا لا يعذب أحدًا إلا بعد الإنذار والإعذار على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام ـ تصريحه جلَّ وعلا في آيات كثيرة‏:‏ ‏"‏بأن لم يدخل أحدًا النار إلا بعد الإعذار والإنذار على ألسنة الرسل‏.‏ فمن ذلك قوله جلَّ وعلا‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ‏}‏‏.‏

ومعلوم أن قوله جلَّ وعلا‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ‏}‏ يعم جميع الأفواج الملقين في النار‏.‏

قال أبو حيان في ‏"‏البحر المحيط‏"‏ في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها ما نصه‏:‏ ‏"‏وكلما‏"‏ تدل على عموم أزمان الإلقاء فتعم الملقين‏.‏ ومن ذلك قوله جلَّ وعلا‏:‏ ‏{‏وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏، وقوله في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ عام لجميع الكفار‏.‏

وقد تقرر في الأصول‏:‏ أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم‏.‏ لعمومها في كل ما تشمله صلاتها، وعقده في مراقي السعود بقوله في صيغ العموم‏:‏ صيغة كل أو الجميع وقد تلا الذي التي الفروع

ومراده بالبيت‏:‏ أن لفظة ‏"‏كل، وجميع، والذي، والتي‏"‏ وفروعهما كل ذلك من صيغ العموم‏.‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً ‏}‏ إلى قوله ‏{‏يَوْمِكُمْ هَذَا‏}‏ عام في جميع الكفار‏.‏ وهو ظاهر في أن جميع أهل النار قد أنذرتهم الرسل في دار الدنيا‏.‏ فعصوا أمر ربهم كما هو واضح‏.‏

ونظيره أيضًا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ‏}‏‏.‏ فقوله ‏{‏وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ‏}‏ إلى قوله ‏{‏النَّذِيرُ فَذُوقُوا‏}‏ عام أيضًا في جميع أهل النار‏.‏ كما تقدم إيضاحه قريبًا‏.‏

ونظير ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن جميع أهل النار أنذرتهم الرسل في دار الدنيا‏.‏

وهذه الآيات التي ذكرنا وأمثالها في القرآن تدل على عذر أهل الفترة بأنهم لم يأتهم نذير ولو ماتوا على الكفر‏.‏ وبهذا قالت جماعة من أهل العلم‏.‏

وذهبت جماعة أخرى من أهل العلم إلى أن كل من مات على الكفر فهو في النار ولو لم يأته نذير، واستدلوا بظواهر آيات من كتاب الله، وبأحاديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فمن الآيات التي استدلوا بها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ‏}‏، وقوله ‏{‏إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

وظاهر جميع هذه الآيات العموم‏.‏ لأنها لم تخصص كافرًا دون كافر، بل ظاهرها شمول جميع الكفار‏.‏

ومن الأحاديث الدالة على أن الكفار لا يعذرون في كفرهم بالفترة ما أخرجه مسلم في صحيحه‏:‏ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس‏:‏ أَنَّ رجلًا قال‏:‏ يا رسول الله، أَين أَبي‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏في النَّار‏"‏ فلما قفى دعاه فقال‏:‏ ‏"‏إنَّ أَبي وأباك في النَّار‏"‏ اهـ وقال مسلم رحمه الله في صحيحه أيضًا‏:‏ حدثنا يَحْيَى بن أيوب، ومحمد بن عباد ـ واللفظ ليحيى ـ قالا‏:‏ حدثنا مروان بن معاوية، عن يزيد يعني ابن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي‏"‏ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب قالا‏:‏ حدثنا محمد بن عبيد، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال‏:‏ زار النَّبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأَبكى من حوله‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكِّر الموت‏"‏ اهـ إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على عدم عذر المشركين بالفترة‏.‏

وهذا الخلاف مشهور بين أهل الأصول ـ هل المشركون الذين ماتوا في الفترة وهم يعبدون الأوثان في النار لكفرهم‏.‏ أو معذورون بالفترة‏؟‏ وعقده في ‏"‏مراقي السعود‏"‏ بقوله‏:‏ ذو فترة بالفرع لا يراع وفي الأصول بينهم نزاع

وممن ذهب إلى أن أهل الفترة الذين ماتوا على الكفر في النار‏:‏ النووي في شرح مسلم، وحكى عليه القرافي في شرح التنقيح الإجماع‏.‏ كما نقله عنه صاحب ‏"‏نشر البنود‏"‏‏.‏

وأجاب أهل هذا القول عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ من أربعة أوجه‏:‏

الأول ـ أن التعذيب المنفى في قوله ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏، وأمثالها من الآيات‏.‏ إنما هو التعذيب الدنيوي‏.‏ كما وقع في الدنيا من العذاب بقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وقوم موسى وأمثالهم‏.‏ وإذًا فلا ينافي ذلك التعذيب في الآخرة‏.‏

ونسب هذا القول القرطبي، وأبو حيان، والشوكاني وغيرهم في تفاسيرهم إلى الجمهور‏.‏

والوجه الثاني ـ أن محل العذر بالفترة المنصوص في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ وأمثالها في غير الواضح الذي لا يخفى على أدنى عاقل‏.‏ أما الواضح الذي لا يخفى على من عنده عقل كعبادة الأوثان فلا يعذر فيه أحد‏.‏ لأن الكفار يقرون بأن الله هو ربهم، الخالق الرازق، النافع، الضار‏.‏ ويتحققون كل التحقق أن الأوثان لا تقدر على جلب نفع ولا على دفع ضر‏.‏ كما قال عن قوم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ‏}‏ وكما جاءت الآيات القرآنية بكثرة بأنهم وقت الشدائد يخلصون الدعاء لله وحده‏.‏ لعلمهم أن غيره لا ينفع ولا يضر‏.‏ كقوله ‏{‏فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏ ولكن الكفار غالطوا أنفسهم لشدة تعصبهم لأوثانهم ـ فزعموا أنها تقربهم إلى الله زلفى، وأنها شفعاؤهم عند الله‏.‏ مع أن العقل يقطع بنفي ذلك‏.‏

الوجه الثالث ـ أن عندهم بقية إنذار مما جاءت به الرسل الذين أرسلوا قبل نبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏ كإبراهيم وغيره‏.‏ وأن الحجة قائمة عليهم بذلك‏.‏ وجزم بهذا النووي في شرح مسلم، ومال إليه العبادي في ‏(‏الآيات البينات‏)‏‏.‏

الوجه الرابع ـ ما جاء من الأحاديث الصحيحة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، الدالة على أن بعض أهل الفترة في النار‏.‏ كما قدمنا بعض الأحاديث الواردة بذلك في صحيح مسلم وغيره‏.‏

وأجاب القائلون بعذرهم بالفترة عن هذه الأوجه الأربعة ـ فأجابوا عن الوجه الأول، وهو كون التعذيب في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ إنما هو التعذيب الدنيوي دون الأخروي من وجهين‏:‏

الأول ـ أنه خلاف ظاهر القرآن‏.‏ لأن ظاهر القرآن انتفاء التعذيب مطلقًا، فهو أعم من كونه في الدنيا‏.‏ وصرف القرآن عن ظاهره ممنوع إلا بدليل يجب الرجوع إليه‏.‏

الوجه الثاني ـ أن القرآن دل في آيات كثيرة على شمول التعذيب المنفي في الآية للتعذيب في الآخرة‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى‏}‏ وهو دليل على أن جميع أفواج أهل النار ما عذبوا في الآخرة إلا بعد إنذار الرسل‏.‏ كما تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية‏.‏

وأجابوا عن الوجه الثاني ـ وهو أن محل العذر بالفترة في غير الواضح الذي لا يخفى على أحد ـ بنفس الجوابين المذكورين آنفًا‏.‏ لأن الفرق بين الواضح وغيره مخالف لظاهر القرآن، فلا بد له من دليل يجب الرجوع إليه، ولأن الله نص على أن أهل النار ما عذبوا بها حتى كذبوا الرسل في دار الدنيا، بعد إنذارهم من ذلك الكفر الواضح، كما تقدم إيضاحه‏.‏

وأجابوا عن الوجه الثالث الذي جزم به النووي، ومال إليه العبادي وهو قيام الحجة عليهم بإنذار الرسل الذين أرسلوا قبله صلى الله عليه وسلم بأنه قول باطل بلا شك‏.‏ لكثرة الآيات القرآنية المصرحة ببطلانه، لأن مقتضاه أنهم أنذروا على ألسنة بعض الرسل والقرآن ينفي هذا نفيًا باتًا في آيات كثيرة‏.‏ كقوله في ‏"‏يس‏"‏‏:‏ ‏{‏لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ‏}‏ و‏"‏مَا‏"‏ في قوله ‏{‏ما أنذر آباؤهم‏}‏ نافية على التحقيق، لا موصولة، وتدل لذلك الفاء في قوله ‏{‏فَهُمْ غَافِلُونَ‏}‏، وكقوله في ‏"‏القصص‏"‏‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏، وكقوله في ‏"‏سبأ‏"‏ ‏{‏وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ‏}‏، وكقوله في ‏"‏ألم السجدة‏"‏‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

وأجابوا عن الوجه الرابع ـ بأن تلك الأحاديث الواردة في صحيح مسلم وغيره أخبار آحاد يقدم عليها القاطع، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ‏}‏، ونحو ذلك من الآيات‏.‏

وأجاب القائلون بالعذر بالفترة أيضًا عن الآيات التي استدل بها مخالفوهم كقوله‏:‏

{‏وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏، إلى آخر ما تقدم من الآيات ـ بأن محل ذلك فيما إذا أرسلت إليهم الرسل فكذبوهم بدليل قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏‏.‏ وأجاب القائلون بتعذيب عبده الأوثان من أهل الفترة عن قول مخالفيهم‏:‏ إن القاطع الذي هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ يجب تقديمه على أخبار الآحاد الدالة على تعذيب بعض أهل الفترة، كحديثي مسلم في صحيحه المتقدمين ـ بأن الآية عامة، والحديثين كلاهما خاص في شخص معين‏.‏ والمعروف في الأصول أنه لا يتعارض عام وخاص‏.‏ لأن الخاص يقضي على العام كما هو مذهب الجمهور، خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله، كما بيناه في غير هذا الموضع‏.‏

فما أخرجه دليل خاص خرج من العموم، وما لم يخرجه دليل خاص بقي داخلًا في العموم‏.‏ كما تقرر في الأصول‏.‏

وأجاب المانعون بأن هذا التخصيص يبطل حكمة العام‏.‏ لأن الله جل وعلا تمدح بكمال الإنصاف‏.‏ وأنه لا يعذب حتى يقطع حجة المعذب بإنذار الرسل في دار الدنيا، وأشار لأن ذلك الإنصاف الكامل، والإعذار الذي هو قطع العذر علة لعدم التعذيب‏.‏ فلو عذب إنسانًا واحدًا من غير إنذار لاختلت تلك الحكمة التي تمدح الله بها، ولثبتت لذلك الإنسان الحجة التي أرسل الله الرسل لقطعها‏.‏ كما بينه بقوله‏:‏ ‏{‏رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى‏}‏ كما تقدم إيضاحه‏.‏

وأجاب المخالفون عن هذا ـ بأنه لو سلم أن عدم الإنذار في دار الدنيا علة لعدم التعذيب في الآخرة، وحصلت علة الحكم التي هي عدم الإنذار في الدنيا، مع فقد الحكم الذي هو عدم التعذيب في الآخرة للنص في الأحاديث على التعذيب فيها‏.‏ فإن وجود علة الحكم مع فقد الحكم المسمى في اصطلاح أهل الأصول‏.‏ بـ ‏"‏النقض‏"‏ تخصيص للعلة، بمعنى أنه قصر لها على بعض أفراد معلولها بدليل خارج كتخصيص العام‏.‏ أي قصره على بعض أفراده بدليل‏.‏ والخلاف في النقض هل هو إبطال للعلة، أو تخصيص لها معروف في الأصول، وعقد الأقول في ذلك صاحب ‏"‏مراقي السعود‏"‏ بقوله في مبحث القوادح‏:‏ منها وجود الوصف دون الحكم سماه بالنقض وعاة العلم

والأكثرون عندهم لا يقدح بل هو تخصيص وذا مصحح

وقد روي عن مالك تخصيص إن يك الاستنباط لا التنصيص

وعكس هذا قد رآه البعض ومنتقى ذي الاختصار النقض

إن لم تكن منصوصة بظاهر وليس فيما استنبطت بضائر

إن جا لفقد الشرط أو لما منع والوفق في مثل العرايا قد وقع

فقد أشار في الأبيات إلى خمسة أقوال في النقض‏:‏ هل هو تخصيص، أو إبطال للعلة، مع التفاصيل التي ذكرها في الأقوال المذكورة‏.‏

واختار بعض المحققين من أهل الأصول‏:‏ أن تخلف الحكم عن الوصف إن كان لأجل مانع منع من تأثير العلة، أو لفقد شرط تأثيرها فهو تخصيص للعلة، وإلا فهو نقض وإبطال لها‏.‏ فالقتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص إجماعًا‏.‏

فإذا وجد هذا الوصف المركب الذي هو القتل العمد العدوان، ولم يوجد الحكم الذي هو القصاص في قتل الوالد ولده لكون الأبوة مانعًا من تأثير العلة في الحكم ـ فلا يقال هذه العلة منقوضة‏.‏ لتخلف الحكم عنها في هذه الصورة، بل هي علة منع من تأثيرها مانع‏.‏ فيخصص تأثيرها بما لم يمنع منه مانع‏.‏

وكذلك من زوج أمته من رجل، وغره فزعم له أنها حرة فولد منها‏.‏ فإن الولد يكون حرًا، مع أن رق الأم علة لرق الولد إجماعًا‏.‏ لأن كل ذات رحم فولدها بمنزلتها‏.‏ لأن الغرور مانع منع من تأثير العلة التي هي رق الأم في الحكم الذي هو رق الولد‏.‏

وكذلك الزنى‏:‏ فإنه علم للرجم إجماعًا‏.‏

فإذا تخلف شرط تأثير هذه العلة التي هي الزنى في هذا الحكم الذي هي الرجم، ونعني بذلك الشرط الإحصان‏.‏ فلا يقال إنها علة منقوضة، بل هي علة تخلف شرط تأثيرها‏.‏ وأمثال هذا كثيرة جدًا‏.‏ هكذا قاله بعض المحققين‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ الذي يظهر‏:‏ أن آية ‏"‏الحشر‏"‏ دليل على أن النقض تخصيص للعلة مطلقًا، والله تعالى أعلم‏.‏ ونعني بآية ‏"‏الحشر‏"‏ قوله تعالى في بني النضير‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ‏}‏‏.‏

ثم بين جل وعلا علة هذا العقاب بقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏‏.‏ وقد يوجد بعض من شاق الله ورسوله، ولم يعذب بمثل العذاب الذي عذب به بنو النضير، مع الاشتراك في العلة التي هي مشاقة الله ورسوله‏.‏

فدل ذلك على أن تخلف الحكم عن العلة في بعض الصور تخصيص للعلة لا نقض لها‏.‏ والعلم عند الله تعالى‏.‏

أما مثل بيع التمر اليابس بالرطب في مسألة بيع العرايا فهو تخصيص للعلة إجماعًا لا نقض لها‏.‏ كما أشار له في الأبيات بقوله‏:‏ * والوفق في مثل العرايا قد وقع *

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ الظاهر أن التحقيق في هذه المسألة التي هي‏:‏ هل يعذر المشركون بالفترة أو لا‏؟‏ هو أنهم معذورون بالفترة في الدنيا، وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها‏.‏ فمن اقتحمها دخل الجنة وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا‏.‏ ومن امتنع دخل النار وعذب فيها، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا‏.‏ لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل‏.‏

وإنما قلنا‏:‏ إن هذا هو التحقيق في هذه المسألة لأمرين‏:‏

الأول ـ أن هذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبوته عنه نص في محل النزاع‏.‏ فلا وجه للنزاع ألبتة مع ذلك‏.‏

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها، بعد أن ساق الأحاديث الكثيرة الدالة على عذرهم بالفترة وامتحانهم يوم القيامة، رادا على ابن عبد البر تضعيف أحاديث عذرهم وامتحانهم، بأن الآخرة دار جزاء لا عمل، وأن التكليف بدخول النار تكليف بما لا يطاق وهو لا يمكن ـ ما نصه‏:‏

والجواب عما قال‏:‏ أن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضيف يتقوى بالصحيح والحسن‏.‏ وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط، أفادت الحجة عند الناظر فيها‏.‏ وأما قوله‏:‏ إن الدار الآخرة دار جزاء، فلا شك أنها دار جزاء، ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار‏.‏ كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة من امتحان الأطفال، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ‏}‏‏.‏

وقد ثبت في الصحاح وغيرها‏:‏ ‏"‏أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة، وأن المنافق لا يستطيع ذلك، ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقًا واحدًا، كلما أراد السجود خر لقفاه‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجًا منها‏:‏ ‏"‏أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك منه، ويقول الله تعالى‏:‏ يا بن آدم، ما أعذرك? ثم يأذن له في دخول الجنة‏"‏ وأما قوله‏:‏ فكيف يكلفهم الله دخول النار، وليس ذلك في وسعهم‏؟‏ فليس هذا بمانع من صحة الحديث‏.‏ ‏"‏فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط وهو جسر على متن جهنم أحد من السيف وأدق من الشعر، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم، كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب‏.‏ ومنهم الساعي، ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم المكدوس على وجهه في النار‏"‏ وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا، بل هذا أطم وأعظم?

وأيضًا ـ فقد ثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإنه يكون عليه بردًا وسلامًا‏.‏ فهذا نظير ذلك‏.‏

وأيضًا ـ فإن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم‏.‏ فقتل بعضهم بعضًا حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفًا، يقتل الرجل أباه وأخاه، وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم‏.‏ وذلك عقوبة لهم على عبادة العجل‏.‏ وهذا أيضًا شاق على النفوس جدًا لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور‏.‏ والله أعلم‏.‏ انتهى كلام ابن كثير بلفظه‏.‏

وقال ابن كثير رحمه الله تعالى أيضًا قبل هذا الكلام بقليل ما نصه‏:‏

ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في عرصات المحشر‏.‏ فمن أطاع دخل الجنة، وانكشف علم الله فيه بسابق السعادة‏.‏ ومن عصى دخل النار داخرًا، وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة‏.‏

وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة، الشاهد بعضها لبعض‏.‏

وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب ‏(‏الاعتقاد‏)‏ وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد‏.‏ انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير رحمه الله تعالى، وهو واضح جدًا فيما ذكرنا‏.‏

الأمر الثاني ـ أن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن بلا خلاف‏.‏ لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما‏.‏ ولا وجه للجمع بين الأدلة إلا هذا القول بالعذر والامتحان‏.‏ فمن دخل النار فهو الذي لم يمتثل ما أمر به عند ذلك الامتحان، ويتفق بذلك جميع الأدلة، والعلم عند الله تعالى‏.‏

ولا يخفى أن مثل قول ابن عبد البر رحمه الله تعالى‏:‏ إن الآخرة دار جزاء لا دار عمل ـ لا يصح أن ترد به النصوص الصحيحة الثابتة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ كما أوضحناه في كتابنا ‏(‏دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب‏)‏‏.‏

{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً‏}

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً‏}‏‏.‏ في معنى قوله ‏{‏أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا‏}‏ في هذه الآية الكريمة ثلاثة مذاهب معروفة عند علماء التفسير‏:‏

الأول ـ وهو الصواب الذي يشهد له القرآن، وعليه جمهور العلماء ـ أن الأمر في قوله ‏{‏أَمْرُنَا‏}‏ هو الأمر الذي هو ضد النهي، وأن متعلق الأمر محذوف لظهوره‏.‏ والمعنى‏:‏ ‏{‏أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا‏}‏ بطاعة الله وتوحيده، وتصديق رسله وأتباعهم فيما جاؤوا به ‏{‏فَفَسَقُواْ‏}‏ أي خرجوا عن طاعة أمر ربهم، وعصوه وكذبوا رسله ‏{‏فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ‏}‏ أي وجب عليها الوعيد ‏{‏فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً‏}‏ أي أهلكناها إهلاكًا مستأصلًا‏.‏ وأكد فعل التدمير بمصدره للمبالغة في شدة الهلاك الواقع بهم‏.‏

وهذا القول الذي هو الحق في هذه الآية تشهد له آيات كثيرة‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ فتصريحه جل وعلا بأنه لا يأمر بالفحشاء دليل واضح على أن قوله ‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا‏}‏ أي أمرناهم بالطاعة فعصوا‏.‏ وليس المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا‏.‏ لأن الله لا يأمر بالفحشاء‏.‏

ومن الآيات الدالة على هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏‏.‏

فقوله في هذه الآية ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ‏}‏، لفظ عام في جميع المترفين من جميع القرى أن الرسل أمرتهم بطاعة الله فقالوا لهم‏:‏ إنا بما أرسلتم به كافرون، وتبجحوا بأموالهم وأولادهم‏.‏ والآيات بمثل ذلك كثيرة‏.‏

وبهذا التحقيق تعلم‏:‏ أن ما زعمه الزمخشري في كشافه من أن معنى ‏{‏أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا‏}‏ أي أمرناهم بالفسق ففسقوا‏.‏ وأن هذا مجاز تنزيلًا لإسباغ النعم عليهم الموجب لبطرهم وكفرهم منزلة الأمر بذلك ـ كلام كله ظاهر السقوط والبطلان‏.‏ وقد أوضح إبطاله أبو حيان في ‏"‏البحر‏"‏، والرازي في تفسيره، مع أنه لا يشك منصف عارف في بطلانه‏.‏

وهذا القول الصحيح في الآية جار على الأسلوب العربي المألوف، من قولهم‏:‏ أمرته فعصاني‏.‏ أي أمرته بالطاعة فعصى‏.‏ وليس المعنى‏:‏ أمرته بالعصيان كما لا يخفى‏.‏

القول الثاني في الآية ـ هو أن الأمر في قوله ‏{‏أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا‏}‏ أمر كوني قدري، أي قدرنا عليهم ذلك وسخرناهم له‏.‏ لأن كلًا ميسر لما خلق له‏.‏ والأمر الكوني القدري كقوله ‏{‏وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏، وقوله ‏{‏أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً‏}‏، وقوله ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏‏.‏

القول الثالث في الآية ـ أن ‏"‏أَمَرْنَا‏"‏ بمعنى أكثرنا‏.‏ أي أكثرنا مترفيهًا ففسقوا‏.‏

وقال أبو عبيدة ‏{‏أَمْرُنَا‏}‏ بمعنى أكثرنا لغة فصيحة كآمرنا بالمد‏.‏

ويدل لذلك الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن سويد بن هبيرة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏خير مال امرىء مهرة مأمورة، أو سكة مأبورة‏"‏‏.‏

قال ابن كثير‏:‏ قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه ‏(‏الغريب‏)‏‏:‏ المأمورة‏:‏ كثيرة النسل‏.‏ والسكة‏:‏ الطريقة المصطفة من النخل‏.‏ والمأبورة‏:‏ من التأبير، وهو تعليق طلع الذكر على النخلة لئلا يسقط ثمرها‏.‏ ومعلوم أن إتيان المأمورة على وزن المفعول يدل على أن أمر بفتح الميم مجردًا عن الزوائد، متعد بنفسه إلى المفعول‏.‏ فيتضح كون أمره بمعنى أكثر‏.‏ وأنكر غير واحد تعدى أمر الثلاثي بمعنى الإكثار إلى المفعول وقالوا‏:‏ حديث سويد بن هبيرة المذكور من قبيل الازدواج، كقولهم‏:‏ الغدايا والعشايا، وكحديث ‏"‏ارجعن مأزورات غير مأجورات‏"‏ لأن الغدايا لا يجوز، وإنما ساغ للازدواج مع العشايا، وكذلك مأزورات بالهمز فهو على غير الأصل‏.‏ لأن المادة من الوزر بالواو‏.‏ إلا أن الهمز في قوله ‏"‏مأزورات‏"‏ للازدواج مع ‏"‏مأجورات‏"‏‏.‏ والازدواج يجوز فيه ما لا يجوز في غيره كما هو معلوم‏.‏ وعليه فقوله ‏"‏مأمورة‏"‏ إتباع لقوله ‏"‏مأبورة‏"‏ وإن كان مذكورًا قبله للمناسبة بين اللفظين‏.‏

وقال الشيخ أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة‏:‏ قوله تعالى ‏{‏أَمْرُنَا‏}‏ قرأ أبو عثمان النهدي، وأبو رجاء، وأبو العالية، والربيع، ومجاهد، والحسن ‏"‏أمرنا‏"‏ بالتشديد‏.‏ وهي قراءة على رضي الله عنه‏.‏ أي سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم‏.‏

وقال أبو عثمان النهدي ‏"‏أمَّرنا‏"‏ بتشديد الميم‏:‏ جعلناهم أمراء مسلطين‏.‏

وقاله ابن عزيز‏:‏ وتأمر عليهم تسلط عليهم‏.‏ وقرأ الحسن أيضًا، وقتادة، وأبو حيوة الشامي، ويعقوب، وخارجة عن نافع، وحماد بن سلمة عن ابن كثير وعلي وابن عباس باختلاف عنهما ‏"‏آمرنا‏"‏ بالمد والتخفيف‏.‏ أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها‏.‏ قاله الكسائي‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ ‏"‏آمرته ـ بالمد ـ وأمرته لغتان بمعنى أكثرته‏.‏

ومنه الحديث ‏"‏خير المَال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة‏"‏ أي كثيرة النتاج والنسل‏.‏ وكذلك قال ابن عزيز‏:‏ آمرنا وأمرنا بمعنى واحد‏.‏ أي أكثرنا‏.‏ وعن الحسن أيضًا، ويحيى بن يعمر‏:‏ أمرنا ـ بالقصر وكسر الميم ـ على فعلنا، ورويت عن ابن عباس‏.‏ قال قتادة والحسن‏:‏ المعنى أكثرنا، وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد‏.‏ وأنكره الكسائي وقال‏:‏ لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد، وأصلها أأمرنا فخفف ـ حكاه المهدوي‏.‏

وفي الصحاح‏:‏ قال أبو الحسن‏:‏ أمر ماله ـ بالكسر ـ أي كثر‏.‏ وأمر القوم‏:‏ أي كثروا‏.‏ قال الشاعر وهو الأعشى‏:‏ طرفون ولادون كل مبارك أمرون لا يرثون سهم القعدد

وآمر الله ماله ـ بالمد‏.‏ الثعلبي‏:‏ ويقال للشيء الكثير أمر‏.‏ والفعل منه أمر القوم يأمرون أمرًا‏:‏ إذا كثروا‏.‏

قال ابن مسعود‏:‏ كنا نقول في الجاهلية للحي إذا كثروا‏:‏ أمر أمر بني فلان‏:‏ قال لبيد‏:‏ كل بني حرة مصيرهم قل وإن أكثرت من العدد

إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا يومًا يصيروا للهلك والنكد

قلت‏:‏ وفي حديث هرقل الحديث الصحيح‏.‏ لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر‏.‏ أي كثر‏.‏ وكلها غير متعد، ولذلك أنكره الكسائي‏.‏ والله أعلم‏.‏

قال المهدوي‏:‏ ومن قرأ أمر فهي لغة‏.‏ ووجه تعدية أمر أنه شبهه بعمر من حيث كانت الكثرة أقرب شيء إلى العمارة‏.‏ فعدى كما عدى عمر ـ إلى أن قال‏:‏ وقيل أمرناهم جعلناهم أمراء‏.‏ لأن العرب تقول‏:‏ أمير غير مأمور، أي غير مؤمر‏.‏ وقيل معناه‏:‏ بعثنا مستكبريها‏.‏ قال هارون‏:‏ وهي قراءة أبي‏:‏ بعثنا أكابر مجرميها ففسقوا فيها ـ ذكره الماوردي‏.‏

وحكى النحاس‏:‏ وقال هارون في قراءة أبي‏:‏ وإذا أردنا أن نهلك قرية بعثنا فيها أكابر مجرميها فمكروا فيها فحق عليها القول اهـ محل الغرض من كلام القرطبي‏.‏

وقد علمت أن التحقيق الذي دل عليه القرآن أن معنى الآية‏:‏ أمرنا مترفيها بالطاعة فعصوا أمرنا‏.‏ فوجب عليهم الوعيد فأهلكناهم كما تقدم إيضاحه‏.‏

تنبيه

في هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال‏:‏ إن الله أسند الفسق فيها لخصوص المترفين دون غيرهم في قوله ‏{‏أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا‏}‏ مع أنه ذكر عموم الهلاك للجميع المترفين وغيرهم في قوله ‏{‏فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً‏}‏ يعني القرية، ولم يستثن منها غير المترفين‏؟‏

والجواب من وجهين‏:‏

الأول ـ أن غير المترفين تبع لهم‏.‏ وإنما خص بالذكر المترفين الذين هم سادتهم وكبراؤهم‏.‏ لأن غيرهم تبع لهم‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا‏}‏، وكقوله ‏{‏إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

الوجه الثاني ـ أن بعضهم إن عصى الله وبغى وطغى ولم ينههم الآخرون فإن الهلاك يعم الجميع‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏، وفي الصحيح من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها‏:‏ أنها لما سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرٍّ قد اقتربْ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل، هذه ـ وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها‏"‏ قالت له‏:‏ يا رسول الله، أنهلك وفيناالصالحون‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم، إذا كثر الخبث‏"‏ وقد قدمنا هذا المبحث موضحًا في سورة المائدة‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً‏}‏‏.‏ ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة‏:‏ أنه أهلك كثيرًا من القرون من بعد نوح‏.‏ لأن لفظة ‏{‏كَمْ‏}‏ في قوله ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا‏}‏ خبرية، معناها الإخبار بعدد كثير‏.‏ وأنه جل وعلا خبير بصير بذنوب عباده‏.‏ وأكد ذلك بقوله ‏{‏وَكَفَى بِرَبِّكَ‏}‏‏.‏

وما دلت عليه هذه الآية الكريمة أوضحته آيات أخر من أربع جهات‏:‏

الأولى ـ أن في الآية تهديدًا لكفار مكة، وتخويفًا لهم من أن ينزل بهم ما نزل بغيرهم من الأمم التي كذبت رسلها‏.‏ أي أهلكنا قرونًا كثيرة من بعد نوح بسبب تكذيبهم الرسل، فلا تكذبوا رسولنا لئلا نفعل بكم مثل ما فعلنا بهم‏.‏

والآيات التي أوضحت هذا المعنى كثيرة‏.‏ كقوله في قوم لوط ‏{‏وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏، وكقوله فيهم أيضًا‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ‏}‏، وقوله فيهم أيضًا‏:‏ ‏{‏وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا‏}‏، وقوله بعد ذكره جل وعلا إهلاكه لقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب في سورة الشعراء‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏، وقوله في قوم موسى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة عل تخويفهم بما وقع لمن قبلهم‏.‏

الجهة الثانية ـ أن هذه القرون تعرضت لبيانها آيات أخر‏.‏ فبينت كيفية إهلاك قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وفرعون وقومه من قوم موسى، وذلك مذكور في مواضع متعددة معلومة من كتاب الله تعالى‏.‏ وبين أن تلك القرون كثيرة في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً‏}‏ وبين في موضع آخر‏:‏ أن منها ما لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وذلك في قوله في سورة إبراهيم ‏{‏أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏‏.‏ وبين في موضعين آخرين أن رسلهم منهم من قص خبره على نبينا صلى الله عليه وسلم، ومنهم من لم يقصصه عليه‏.‏ وهما قوله في سورة النساء‏:‏ ‏{‏وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً‏}‏، وقوله في سورة المؤمن‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ‏}‏‏.‏ الجهة الثالثة ـ أن قوله ‏{‏مِن بَعْدِ نُوحٍ‏}‏ يدل على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح أنها على الإسلام‏.‏ كما قال ابن عباس‏:‏ كانت بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام ـ نقله عنه ابن كثير في تفسير هذه الآية‏.‏

وهذا المعنى تدل عليه آيات أخر‏.‏ كقوله ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ‏}‏، وقوله‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ‏}‏‏.‏ لأن معنى ذلك على أصح الأقوال أنهم كانوا على طريق الإسلام، حتى وقع ما وقع من قوم نوح من الكفر‏.‏ فبعث الله النَّبيين ينهون عن ذلك الكفر، مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم بالنار‏.‏ وأولهم في ذلك نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام‏.‏

ويدل على هذا قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ‏}‏‏.‏ وفي أحاديث الشفاعة الثابتة في الصحاح وغيرها أنهم يقولون لنوح‏:‏ إنه أول رسول بعثه الله لأهل الأرض كما قدمنا ذلك في سورة البقرة‏.‏

الجهة الرابعة ـ أن قوله ‏{‏وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً‏}‏ فيه أعظم زجر عن ارتكاب ما لا يرضي الله تعالى‏.‏

والآيات الموضحة لذلك كثيرة جدًا‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏ وقد قدمنا هذا المبحث موضحًا في أول سورة هود‏.‏ ولفظة ‏"‏كم‏"‏ في هذه الآية الكريمة في محل نصب مفعول به ‏"‏لأهلكنا‏"‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ في قوله ‏{‏مِّنَ الْقُرُونِ‏}‏ بيان لقوله ‏{‏كَمْ‏}‏ وتمييز له كما يميز العدد بالجنس‏.‏ وأما لفظه ‏"‏من‏"‏ في قوله ‏{‏مِن بَعْدِ نُوحٍ‏}‏ فالظاهر أنها لابتداء الغاية، وهو الذي اختاره أبو حيان في ‏"‏البحر‏"‏‏.‏ وزعم الحوفي أن ‏"‏من‏"‏ الثانية بدل من الأولى، ورده عليه أبو حيان‏.‏ والعلم عند الله تعالى‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً‏}‏‏.‏ ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة‏:‏ أن ‏{‏وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا‏}‏ أي عمل لها عملها الذي تنال به، وهو امتثال أمر الله، واجتباب نهيه بإخلاص على الوجه المشروع ‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ أي موحد لله جل وعلا، غير مشرك به ولا كافر به، فإن الله يشكر سعيه، بأن يثيبه الثواب الجزيل عن عمله القليل‏.‏